ثالوث الحرب ثابت والوعي هو المتغير

09 يوليو 2015
صورة عامة لمدينة غزة التقطتها خلال الحرب الأخيرة | أغسطس 2014


القصف والموت والتشريد ثالوث ثابت في كل حرب إسرائيلية على غزة مع اختلاف كثافة القصف ونسبة الموت وحجم التشريد في كل عدوان من العدوانات الثلاثة الأخيرة ،ولكن المتغير بالنسبة لي هو الوعي وحجم الإدراك لما يدور حولي من أحداث وطريقة النظر إليها واستيعابها ، من طفل في الحرب الأولى إلى شاب في الحرب الثالثة.


في عدوان عام 2008  كانت المقاومة مازالت تستخدم أدواتها البسيطة في القتال لتواجه احتلالًا يقصفنا بأحدث أنواع الأسلحة عالميًا وأشدها فتكًا فكانت لا تمر دقيقة دون أن يلقي قنابل الفسفور الأبيض المصحوبة بالصواريخ وغيرها من القنابل على بقعة الأرض الممتدة من الساحل غربًا إلى الحدود الزائلة شرقًا والحدود مع مصر جنوبًا فتكون النتيجة مجزرة كل ساعة وحركة تشريد واسعة من الأطراف إلى الوسط ، كانت عائلتنا إحدى العائلات التي عاشت مر التشريد يوميًا ونجت في إحدى المرات من قنبلة فسفور كادت أن تفتك بها لولا لطف الله، وخلال أسابيع الحرب الثلاثة لم أكن قادرًا إلا على التنقل مع عائلتي أينما ترحل وأترك أذناي تستمعان لتحليلات الرجال الكبار وقصص النساء وويلاتهن في الحي الذي كنّا نرحل إليه خلال الليل ونعود إلى منزلنا في النهار ،وكان شغلي الشاغل طوال فترة الحرب عن ماذا ستفعل إدارة المدرسة في امتحانات الفصل الدراسي الأول الذي تم إلغاءه بسبب الحرب التي بدأت قبل أيام فقط من الامتحانات ،هل ستعيد لنا الاختبارات أم هل ستسمح لنا بدخول الفصل الثاني مباشرة ؟

وفي عدوان 2012  كُنت مازلت طالبًا في آخر مراحل المدرسة الثانوية "توجيهي" وكان أخي الأكبر في بداية الجامعة وأخي الأصغر قد دخل المرحلة الثانوية واستطعنا ثلاثتنا التأثير على قرار أبي بالخروج من المنزل إلى مكان كان يعتقد أنه أكثر أمنًا لنا ولإخوتي الصغار كما فعل في الحرب الأولى فأقنعناه بأننا غير خائفين من أي شئ وقدرنا سيلاحقنا أينما ذهبنا وإن كان يخاف على بقية إخوتي الصغار فليخرج معهم إلى مكان أكثر أمنا ويتركنا نتدبر أمورنا في منزلنا الذي يعتبر في منطقة من أشد الأماكن خطورة في غزة خلال الحروب ، كنت وقتها قد امتلكت مدونة سجلت فيها يوميات الحرب الثمانية وأشارك الأصدقاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي حالة الحرب التي نعيش، وأستمع للتحليلات المتنوعة من عدة مصادر من خلال الانترنت والتلفاز على عكس الحرب الأولى التي كانت مقتصرة على رجال الحي ونساؤه ، ومنعنى بقائي في البيت طوال أيام الحرب الثمانية من مشاهدة الحرب صوتًا وصورة بشكل أوسع فكنت أستمع إليها فقط داخل المنزل.

الحرب الثالثة 2014  كانت الأشد فتكًا والأطول زمانًا والأكثر مقاومة ، عاينتها عن قرب في مستشفى دار الشفاء التي كانت تضم بين جدرانها الآلاف من الشهداء والجرحى والعديد الوسائل الإعلامية المختلفة التي كانت عرضة للقصف في مكاتبها الصحفية ،ثم انضم إليهم لاحقًا المشردين من شرق غزة بعد مجزرة الشجاعية ليلة 20-7-2014  ، قضيت أيام الحرب الـ 51 برفقة فريق إحدى القنوات الفضائية الفلسطينية ،سمحت لي هذه التجربة بمشاهدة الحرب بأدق تفاصيلها.

 كانت غرفة عمليات المؤسسات الصحفية في ساحة مستشفى الشفاء أمامنا مدخل الاستقبال الذي يتوافد إليه عشرات الجرحى والشهداء على مدار الساعة وبجانبنا غرفة ثلاجات الموتى التي يأتي إليها أهالي الشهداء ليشيعوا أبناءهم بعد استشهادهم بأقل من ساعة في جنازة صغيرة لا يتبعها بيت عزاء خوفًا من أن يتم قصفه ، ويحيطنا من كل الجهات الآلاف من المشردين الذين نجوا من آلة الحرب الصهيونية التي دمرت منازلهم.

كنّا نشاهد الموت كل دقيقة يدخل في سيارات الإسعاف إلى المستشفى تلحق بها سيارة مدنية تحمل ما تبقى من العائلة التي استُهدفت ليتعرفوا على جثث أبنائهم ،بعد ساعة نرى نفس العائلة برفقة بعض أقاربهم الذين تمكنوا من الوصول يحملون الشهداء على أكتافهم ويصلّون عليهم في مسجد الشفاء "البورنو" ثم يشيعوه إلى مثواه الأخير ، وبعد ساعات تكون نفس العائلة قد حجزت لها خيمة من الخيام المتناثرة في ساحة المستشفى أو في فصل من فصول إحدى مدارس الأونروا ويستقبلون المعزين.

مشهد الخيام في مسلسل التغريبة الفلسطينية لم يكن أشد بؤسًا من الخيام التي كانت منصوبة في ساحة المستشفى ،في الصباح يصطف شخص من كل خيمة ليحصل على إبريق من الماء أو بعض وجبات الطعام له ولعائلته وتكون رحلة البحث عن مكان للاستحمام مستمرة طوال اليوم ،لكن كل هذا البؤس وأكثر كان يزول فجأة عندما نسمع بيان من بيانات المقاومة الفلسطينية ، فعند إعلان كتائب القسام عن أسرها للجندي الإسرائيلي شاؤول آرون تحولت مستشفى الشفاء إلى ساحة كبيرة للهتافات الفلسطينية التي تحيي المقاومة وحلقات الدبكة بدأت تتشكل بشكل عشوائي وأصوات الزغاريد تتردد في كل مكان وكان يطل على الساحة من شبابيك غرف المرضى العشرات من الجرحى يشاركوننا الفرحة من على أسرتهم ، ولك أن تتخيل كيف خرجت سدور الحلويات الساخنة إلى ساحة المستشفى وبدأ الناس بتناقلها بينهم علمًا بأن الوقت متأخر ولا يوجد أي حركة خارج أسوار المستشفى وحتى محلات الحلويات كانت مغلقة طوال فترة الحرب، هذا كله يدل على أن هؤلاء الناس لا تقدر عليهم لا إسرائيل ولا "طلايلها".

على رأس كل ساعة عند نشرة الأخبار ينتشر المحللون السياسيون في ساحات المستشفى أمام عدسات الكاميرات بعد أن يتلو المراسل آخر إحصائية للشهداء والجرحى والمنازل المدمرة ويسرد عدد صليات الصواريخ التي دكت الأراضي المحتلة ،ويبدؤون بتحليل توقعاتهم عن الأيام القادمة للحرب وما ستحمل في الأيام المقبلة من تصعيد سياسي، وبعد انتهاء بث الهواء كنت أشاركهم الحديث لمحاولة فهم ما يدور في هذه الحرب المعقدة من كل النواحي.

تصل الرسائل الإخبارية العاجلة إلى "دسك الأخبار" بشكل مستمر طوال الليل والنهار مرّة تحمل خبر قصف منزل أو استهداف أرض زراعية أو تحديث بعدد الشهداء والجرحى وأجملها الرسائل التي تصل من المكاتب الإعلامية لفصائل المقاومة تحدثنا عن عدد الصواريخ والقذائف التي أطلقت خلال الساعة الحالية إلى الأراضي المحتلة ، أما أسوأ تلك الرسائل بشاعة هي التي لم أكن أتخيل أني سأتلقى خبر استشهاد أصدقائي وجيراني وأقاربي ولا أستطيع الوصول إلى منزلهم للمشاركة في تشييعهم أو مواساة أهلهم ، بشير وبشار ومحمد وحازم وعبد الرازق وطلال ومحمود وعمرو وغيرهم الكثير لكل واحد منهم ذكريات خاصة انتهت بوصول تلك الرسالة النصية إلى الهاتف المحمول ،أدعوا لهم وأصمت وأبدأ بتخيل مشهد كان يلاحقني دائمًا ، هل يمكن أن أشاهد في لحظة ما صور أحد أفراد عائلتي أو حتى كلهم على الشاشة الصغيرة التي تبث مباشرة من أمام مدخل الاستقبال في المستشفى قبل خروجها إلى الهواء الخارجي ؟
ماذا لو حدث ذلك ؟ أنظر حولي وأقول : هل عائلتي أفضل من هؤلاء المفترشون الأرض وملتحفون السماء في ساحة المستشفى بعد أن خرجوا من الموت بمعجزة إلاهية وأقل واحد منهم فقد اثنين أو ثلاثة من أفراد عائلته ؟ ورغم ذلك كنت أرى في ملامح وجوههم "عِناد الموت وحب الحياة".



إرسال تعليق