مخيمات ليست كالمخيمات

14 يناير 2016
ميكانيكي سيارات في مدخل مخيم برج البراجنة
زيارة لبنان كانت أشبه بالحلم المستحيل. لكن مؤتمراً جمعنا، من الضفة والقدس وغزة، لنلتقي أهل الشتات. قبل تلك الزيارة، كان فهمنا لمعنى المخيم يقتصر على التشكيلة الجغرافية والاجتماعية للمخيمات في القطاع، وهي تقارب الثمانية، وقد صارت غالبيتها أشبه بالمدينة، أو بضواحي المدن، إذا ما قورنت بمخيمات لبنان.

قليلة هي أوجه الشبه بين المخيمات الفلسطينية الموجودة في لبنان، والمخيمات المنتشرة في قطاع غزة. على الأقل من ناحية البناء ومقومات الحياة والخدمات المتوافرة. النظرة الأولى لفلسطيني لاجئ في غزة، يزور مخيمات اللجوء في لبنان صادمة. للحظة تصير تتمتم بينك وبين نفسك: «... ليست كمخيماتنا». ربما يجدر بنا إعادة التعريف بالمخيم في غزة بعدما صار بعضها لا يحمل من «المخيم» الا اسمه، مضافاً اليه بعض من ذاكرة الأجداد التي تتناقل مع كل جيل.

هكذا، تجمعنا من نحو 60 دولة، في حافلات صغيرة يسميها اللبنانيون «فان»، طافت بنا في جولة سريعة على المخيمات. توقفنا أمام مدخل أكبر المخيمات الفلسطينية في العاصمة بيروت، مخيم برج البراجنة، جنوبي المدينة. أخبرنا من استقبلنا هناك أنه نحو 16 ألف لاجئ يسكنون هنا، أجبروا على الرحيل من منطقة الجليل الأوسط في فلسطين المحتلة.

بدأنا التجوال بين أزقة «برج البراجنة»، الذي صار ناراً على علم بعد الانفجار الانتحاري الأخير على أبوابه. لكن الحديث مع ساكنيه لم يكن كما توقعنا. كانوا ينظرون إلينا بوجه يوحي باعتيادهم رؤية "مثل هذه الزيارات" التي لا تجلب لهم نفعاً.
سمعنا بعضهم يتراهنون على معرفة هويتنا. قال أحدهم: «واضح إنهم أجانب». لكن إحدى النساء الكبار في السن التي تسكن في بيت قديم مقابل «روضة فلسطين» وسط المخيم بادرت إلى السؤال جهراً. كانت تلبس ثوباً أقرب إلى الثوب التقليدي لمدينة القدس. سألتنا: «من وين إنتم؟». كنت سعيداً حينما أجبتها: «أنا من مخيم جباليا بغزة». ردت علينا بالترحيب، ثم عرفتنا بنفسها. من ثم بدأ من معي يعرّفون عن أنفسهم: «أنا من مخيم اليرموك في سوريا... من رام الله... فلسطينية من أميركا».

برفقة إحدى نساء مخيم برج البراجنة
تحدثنا قليلاً عن أوضاع المخيم، ولكني لم أستطع إخفاء فضولي لمعرفة من أين لها هذا الثوب. حكت لنا قصة قصيرة أشبه بقصص لجوئنا. «هذا الثوب جابتلي ياه بنتي بعد ما خلّصت تعليم. تجوزت في بريطانيا وصار معها جواز أجنبي قدرت تدخل فيه ع فلسطين. ولمّا زارت القدس جابتلي ياه هدية من هناك».

لم أستطع خلال الجولة نسيان مخيم جباليا ومقارنة برج البراجنة به. جباليا معروف كما علمونا في صغرنا أنه صاحب أعلى نسبة اكتظاظ سكاني في العالم. لكن برغم ما مر علينا من حروب هناك، فإن «جباليا» يحتوي أغلب مقومات الحياة العادية من بنية تحتية وكهرباء، وإن كانت مقطوعة في غالب الأوقات. أيضاً ثمة شبكة طرق جيدة إذا قورنت بالحال هنا، بل انتقل شكل جباليا الآن من مخيم إلى مبانٍ عمودية طويلة للتغلب على الاكتظاظ السكاني.

مستشفى حيفا
وصلنا إلى مستشفى حيفا التابع لجمعية «الهلال الأحمر الفلسطيني» ويبدو أنه المركز الصحي الوحيد في برج البراجنة. علمنا أيضاً أنه توجد ثماني مدارس فقط! وسط ذلك كنا نشاهد فلسطين هنا أكثر من فلسطين نفسها. على قارعات الطريق لا تكاد تخلو جملة مكتوبة على الحائط من ذكر فلسطين. حتى أسماء المحلات والشعارات على الجدران، كأن المكان أشبه بمسرح لتمثيل مسلسل عن فلسطين أو فيلم سينمائي.

هذه الحالة كانت موجودة بقوة في مخيمات غزة لكن مرور الوقت حول الجدران إلى سجل لشعاراتنا عن الحصار والحروب المتكررة والبطالة. لكن ما الذي سيفكر به ابن الشتات سوى العودة إلى فلسطين؟ أخبرنا أحد الشباب في برج البراجنة عن مجالات العمل المسموح لهم ممارستها ويقتصر معظمها على البناء والأعمال البسيطة الأخرى، على عكس ما هو في غزة التي يعمل أهلها في كل مجالات العمل المتوافرة.

وقفنا قليلًا في آخر الشارع الرئيسي للمخيم أمام مقبرة الشهداء، وفي الخلف مستشفى حيفا الذي لا يمتلك إلا سيارة إسعاف واحدة إذا عبرت الشارع فإنها كفيلة بإغلاقه تماماً. أما موسم الشتاء؟ فكافٍ لقتل عدد من أهله، إما بسبب البرد أو الصعقات الكهربائية الناتجة عن التماس بين مئات أسلاك الكهرباء المتدلية في شوارعه. مقابل دكان واحدة في كل شارع في برج البراجنة، تذكرنا أن بعض شوارع جباليا صارت تضاهي شوارع غزة المدينة، لكثرة محلاتها التجارية ونوعية البضائع التي تعرضها، بل صارت محط أنظار عدد من أصحاب رؤوس الأموال للاستثمار فيها. باختصار، السائر بسيارته من جباليا متجهاً إلى مركز غزة قد لا يلاحظ فرقاً كبيراً في الانتقال من المخيم إلى المدينة.

مضى الوقت سريعاً وتوجهنا قبل المغادرة إلى المركز الثقافي في مدخل برج البراجنة، الذي تلخص سيرته حكاية الفلسطينيين ممن شُرّدوا عام النكبة وصارعوا حروب لبنان الأهلية وغيرها، لينتهي بهم المطاف إلى المجهول الذي يصعب أن يتنبأ بنهايته أحد ولا توجد له إلا إجابة واحدة فقط كانت مكتوبة على جدران محل تصليح سيارات مقابل المركز الثقافي: «إسرائيل غدة سرطانية يجب إزالتها». لكن أكثر ما قد يبدد هذا الحلم هجرة مئات من أبناء برج البراجنة إلى بلاد أبعد عن فلسطين من لبنان.

* نشرت في جريدة الأخبار اللبنانية

إرسال تعليق